رفح- الاختبار الأخير للعدوان الإسرائيلي واستمرار الخلافات

المؤلف: مَاجد إبراهيم11.15.2025
رفح- الاختبار الأخير للعدوان الإسرائيلي واستمرار الخلافات
تشكل مدينة رفح، الواقعة في أقصى جنوب قطاع غزة، آخر الملاجئ المتبقية للفلسطينيين النازحين، إذ اكتظت بالمهجرين قسراً من شمال ووسط القطاع، ليبلغ تعدادهم فيها نحو 1.4 مليون نسمة. وفي هذا الوقت العصيب، تمثل رفح الاختبار الحقيقي لنجاح أو فشل العنف الإسرائيلي المستمر، في ظل إصرار رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على مواصلة العمليات العسكرية، رغم الخلافات المتفاقمة داخل حكومته الائتلافية والتراجع الملحوظ في الدعم الغربي للحرب على غزة، والتي أسفرت حتى الآن عن استشهاد ما يقارب 29 ألف فلسطيني وإصابة قرابة 69 ألفاً، معظمهم من الأطفال والنساء. ويسعى نتنياهو بكل ما أوتي من قوة لاستمالة الرأي العام الإسرائيلي لسياساته، ملوحاً بشعار جديد يتمثل في تحقيق "الانتصار الحاسم"، ومؤكداً أن القوة العسكرية هي السبيل الوحيد لإطلاق سراح الأسرى، ومتماشياً بذلك مع المشاعر الجياشة لدى الإسرائيليين المتعطشين للانتقام عقب أحداث "طوفان الأقصى". ## الهروب للأمام يأتي هذا الإصرار الإسرائيلي في ظل الإخفاقات المتتالية لقوات الاحتلال في القضاء على حركة حماس، فضلاً عن فشلها الذريع في تحرير الأسرى بالقوة، باستثناء عملية تحرير أسيرين في رفح، والتي أثيرت حولها شكوك كبيرة، حيث يُعتقد أنهما لم يكونا محتجزين لدى المقاومة، بل لدى إحدى العائلات. وبناءً على ذلك، فإن هذا الإصرار الإسرائيلي لا يعكس واقعاً ميدانياً ناجحاً، كما أن تأكيدات نتنياهو وكبار قادته على تدمير جزء كبير من كتائب حماس المقاتلة، تتناقض بشكل صارخ مع الفيديوهات التي تنشرها المقاومة، والتي توثق الكمائن وعمليات القنص والتفجير التي تنفذها ضد قوات الاحتلال، بالإضافة إلى المعارك الضارية التي لا تزال مستمرة في خان يونس جنوب القطاع. وقد اعترف الاحتلال صراحة بأنه يهدف من خلال التوجه إلى رفح إلى القضاء على أربع كتائب تابعة لحماس لم تشارك بعد في المعارك، ولم تتأثر قدراتها القتالية حتى الآن. وقد حذر رئيسا الوزراء الإسرائيليان السابقان، إيهود باراك وإيهود أولمرت، في تصريحات سابقة، من استحالة تحقيق النصر في هذه المرحلة، ودعوا إلى إبرام صفقة تبادل أسرى تتيح لإسرائيل استئناف الحرب على حماس في المستقبل. كما أكد العديد من قادة الأجهزة الأمنية والمفكرين والكتاب على فشل الاحتلال في تحقيق مهمة القضاء على حماس، وضرورة التوصل إلى صفقة تبادل للأسرى، إلا أن نتنياهو تجاهل هذه الدعوات، وأصر على الاستمرار في الحرب، حتى لو كان ذلك على حساب حياة الأسرى. وفي شهادات حديثة تعكس فشل الاحتلال في تحقيق أهدافه، صرح اللواء احتياط يتسحاق بريك للقناة 12 العبرية بأنه "لا يمكن الانتصار في هذه الحرب، وعلينا أن نواجه الحقيقة ونعترف بها، وأن نتوقف عن سرد القصص الوهمية (..) وبرأيي، من الصعب جداً تدمير حماس اليوم، والأسهل هو استعادة المخطوفين". أما رئيس جهاز الموساد السابق تامير باردو، فقد نقلت عنه قناة كان 11 الإسرائيلية الرسمية قوله: "لم يعد أمام إسرائيل خيار سوى القبول بعقد صفقة لتبادل الأسرى تحدد حركة حماس شروطها وموعد الإفراج عن الأسرى"، مضيفاً: "إذا أنهينا الحرب بـ 136 رون آراد (في إشارة إلى اسم مساعد طيار مفقود منذ 36 عاماً في لبنان) أو بـ 136 تابوتاً، فإن إسرائيل، للمرة الأولى منذ قيامها، ستخسر الحرب". كما نقلت شبكة CNN عن رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي أن إسرائيل حققت نجاحاً ضئيلاً في تطهير وتأمين أنفاق غزة التي يبلغ طولها أكثر من 500 كيلومتر. ورغم أن الحكومة الإسرائيلية، بمن فيها معارضو نتنياهو من حزب المعسكر (غانتس وإيزنكوت)، متفقة على ضرورة استمرار الحرب، فإن محاولات نتنياهو لتهميش غانتس وإيزنكوت وإبعادهم عن المفاوضات مع حماس بشأن اتفاقية الإطار التي تم التوصل إليها في باريس، دفعت هذين الأخيرين إلى التهديد بالانسحاب من الحكومة، لشعورهما بأن نتنياهو يسعى إلى إفشال الاتفاق، من أجل الاستمرار في الحرب وإلقاء اللوم على حماس، مدعياً أن شروطها تعجيزية ولا يمكن القبول بها، وأن الاستجابة لهذه الشروط تعني هزيمة إسرائيل! وهو ما يؤكد أنه يريد استمرار الحرب حتى يبقى على رأس الحكومة ويتجنب المحاكمة بتهم الفساد التي تلاحقه، والتي ستضاف إليها تهم التقصير في توقع ومواجهة أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول. وقد أدى هذا السلوك إلى تصاعد وتيرة المظاهرات التي ينظمها أهالي الأسرى في تل أبيب أمام وزارة الحرب وفي قيسارية أمام منزل نتنياهو، وانضمام رئيس اتحاد نقابات العمال (الهستدروت) للمطالبة بإبرام صفقة تبادل مع المقاومة، والتأكيد على أن إطالة أمد الحرب ستؤدي إلى مقتل من تبقى من الأسرى لدى المقاومة. ## خلافات والعدوان مستمر وبنفس المنطق، يواصل نتنياهو التحشيد والإعداد لشن هجوم على رفح، مؤكداً أن عدم تنفيذ هذه العملية يعني "خسارة الحرب" ضد حماس، وأن العملية ستتم حتى لو تم التوصل إلى اتفاق بشأن الأسرى. وقد طلب نتنياهو من رئيس أركان الجيش هرتسي هليفي إعادة تعبئة قوات الاحتياط التي تم تسريحها استعداداً للعملية في رفح، فيما نقلت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية عن مسؤول إسرائيلي رفيع أن نتنياهو أبلغ المجلس الوزاري المصغر (الكابينت) ومجلس الحرب بأنه يجب إنهاء العملية العسكرية البرية في رفح مع حلول شهر رمضان، في العاشر من مارس/آذار المقبل". ووفقاً للهيئة، فإن العملية البرية في رفح لن تبدأ إلا بعد استيفاء شرطين: الأول؛ إخلاء واسع النطاق للفلسطينيين من رفح ومحيطها، والثاني؛ اتفاق بين إسرائيل ومصر بشأن نشاط الجيش الإسرائيلي ضد الأنفاق في محور فيلادلفيا. وقد أعطت واشنطن الضوء الأخضر لهذه العملية، حيث أبلغ الرئيس الأميركي جو بايدن نتنياهو في الاتصال الهاتفي بينهما قبل أيام "بأن العملية العسكرية في رفح لا ينبغي أن تتم دون خطة موثوقة وقابلة للتنفيذ!"، فيما أكدت قناة كان العبرية أن "البيت الأبيض أبلغ إسرائيل بعدم ممانعة تنفيذ العملية البرية في رفح قبل رمضان وبسرعة، والامتناع عن تنفيذها خلال شهر رمضان، تفادياً لتصعيد إقليمي!". يأتي ذلك رغم التسريبات المتزايدة التي تتحدث عن غضب بايدن من نتنياهو، ووصفه بـ "الأحمق" و"الرجل السيئ"، الأمر الذي يؤكد أن واشنطن، التي تدعم استمرار الحرب حتى تحقيق هدف القضاء على حماس، لا تمارس ضغطاً حقيقياً على إسرائيل لوقف جرائمها، وأنها تحاول فقط ضبط عملياتها بحيث لا تؤدي إلى ردود أفعال عالمية واسعة، وأن الهدف من هذه التصريحات هو للاستهلاك الداخلي نتيجة لحسابات الرئيس الأميركي جو بايدن الداخلية. ورغم وجود خلافات حقيقية بين الرجلين والإدارتين، تتعلق بحجم استهداف المدنيين، والتوصل إلى وقف لإطلاق النار مع حماس، وتصور ما بعد الحرب المتعلق بدور السلطة الفلسطينية والدولة المستقلة، فإن بايدن يبدو عاجزاً أو غير راغب في الضغط على نتنياهو من خلال المساعدات أو الضغط الدبلوماسي، بل يواصل الضغط على الكونغرس للموافقة على مساعدات تزيد على 14 مليار دولار لإسرائيل. وصدرت الأسبوع الماضي مذكرة للأمن القومي تتطلب استخدام أي مساعدات عسكرية أميركية بما يتوافق مع القانون الإنساني الدولي، ولكنها لم تُطبق على المساعدات العسكرية لإسرائيل حتى الآن. ويواجه بايدن معارضة داخل حزبه، وفي الكونغرس، ويفقد تأييد العرب والمسلمين الذين يشكل دعمهم له عنصراً أساسياً في الولايات المتأرجحة، ومن المحتمل أن يخسر الانتخابات كثمن لدعمه اللامحدود لإسرائيل! وفي المقابل، يتجاهل نتنياهو مطالب بايدن، وربما يعتقد أنه قادر على التأثير على الرئيس الأميركي من خلال الأيباك، ويفضل الاستمرار في إحراجه وتقويض فرص فوزه في الانتخابات الأميركية! وربما يعتقد أيضاً أن إسقاط بايدن وفوز دونالد ترامب سيشكلان طوق نجاة له للاستمرار في الحكم وتجنب المحاكمة بتهم الفساد والفشل في 7 أكتوبر/تشرين الأول! وهو يحلم كذلك بالظهور في التاريخ الصهيوني كبطل ورافض للضغوط الأميركية على عكس غيره من الرؤساء، وأنه أعاد لإسرائيل هيبتها وأمنها. وتجدر الإشارة هنا إلى ردود الفعل العالمية التي شكلت تحولاً في مواقف الدول الغربية التي دعمت إسرائيل بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، فبالإضافة إلى دعم حكومات بريطانيا وفرنسا وألمانيا لوقف الحرب على النقيض من الموقف الأميركي، فقد أصدر قادة أستراليا وكندا ونيوزيلندا بياناً مشتركاً حذروا فيه من أن العملية في رفح ستكون "كارثية". فيما أكد المستشار الألماني أولاف شولتز على ضرورة دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، وضرورة امتثال إسرائيل للقانون الدولي، كما أكدت وزيرة الدفاع الهولندية أن بلادها قلقة للغاية إزاء الوضع في غزة، معتبرة أن الناس هناك بحاجة إلى وقف فوري لإطلاق النار. ورغم هذا الإصرار من نتنياهو، فإن العمليات في رفح تأتي في محاولة لتحسين موقفه التفاوضي في ضوء مفاوضات تبادل الأسرى ووقف النار بعد رد حماس على هذه الوثيقة ومطالباتها المتعلقة بالإغاثة والمساعدات وإطلاق المعتقلين الفلسطينيين. وعلى الأغلب سيضطر نتنياهو في النهاية للتفاوض على شروط الصفقة بعد أن يفشل في مهمته برفح، بالتزامن مع استمرار صمود المقاومة في الشمال والوسط، لا سيما أن طول أمد المعركة سيضاعف الضغوط الدولية عليه، بما فيها ضغوط محكمة العدل الدولية التي ستعقد جلسة أخرى للنظر في مدى تجاوب إسرائيل مع منع الإبادة الجماعية. وفي محاولة لتجاوز الاعتراضات الدولية والأميركية على اجتياح رفح، ورفض جميع الأطراف، بما في ذلك مصر، لتهجير الفلسطينيين إلى العريش، فقد طُرحت عدة اقتراحات إسرائيلية، من بينها إجلاء سكان رفح إلى شاطئ المواصي، بحيث يتم إنشاء 15 مخيماً على شاطئ البحر، كل منها يضم 25 ألف خيمة! ولكن ذلك بالطبع لن يمنع أن يؤدي العدوان إلى تشريد الفلسطينيين وتهجيرهم إلى مصر، خصوصاً أن الاحتلال أكد أنه لن يسمح بعودتهم إلى شمال غزة، وهذا يضع العدوان أمام مرحلة جديدة لن تكون أقل سوءاً من سابقاتها، كما سيضع الحكومة المصرية أمام موقف محرج، وهي التي سبق أن قالت إنها لن تسمح بتهجير الفلسطينيين، وإن كانت صدرت مؤشرات على إمكانية تعاملها مع احتلال إسرائيل معبر صلاح الدين (فيلادلفيا)، رغم مخالفته اتفاقيات السلام بين البلدين. وتم رصد قيام السلطات المصرية بتمهيد منطقة عازلة على الحدود مع رفح، حيث نفت مصر أن يكون ذلك لاستيعاب المهجرين الفلسطينيين. ## استمرار العدوان ويبدو أن نتنياهو وحكومته لا يكتفون فقط بالسعي لاستسلام حماس أو هزيمتها، وإنما أيضاً بتهجير سكان غزة إذا سنحت لهم الفرصة لذلك، فضلاً عن السعي لانسحاب حزب الله إلى شمال الليطاني، والسيطرة على الأغوار واستكمال الاستيطان والتهويد في الضفة الغربية والقدس.
وهذا السلوك قد يجر المنطقة بأسرها إلى صراع إقليمي تتجنبه واشنطن، ولكنها لا تمارس نفوذها للجم هذه الحكومة، ما قد يؤدي إلى إضعاف دورها في المنطقة، ويؤثر سلباً على حلفائها. أما فيما يتعلق بالموقف السياسي ومستقبل الصراع، فمن الواضح أن معظم الإسرائيليين -باستثناء مؤيدي السلام ذوي الميول اليسارية والذين يكادون يختفون من المشهد السياسي الإسرائيلي- يتفقون على الموقف من الدولة الفلسطينية، واعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. وليس أدل على ذلك من مصادقة الحكومة الإسرائيلية بالإجماع على إعلان نوايا اتفق عليه نتنياهو وغانتس، جاء فيه أن "إسرائيل ترفض بشكل قاطع إملاءات دولية بشأن تسوية دائمة مع الفلسطينيين". وشدد الإعلان على أنه يرفض الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية بشكل أحادي الجانب، واعتبر أن "تسوية من هذا النوع تحصّل فقط بمفاوضات مباشرة بين الأطراف، من دون شروط مسبقة، وأن اعترافاً دولياً أحادي الجانب بدولة فلسطينية هو جائزة كبرى للإرهاب بعد مذبحة 7 أكتوبر/تشرين الأول، وتمنع كل تسوية مستقبليّة للسلام". ولذلك، فمن المتوقع استمرار العنف بوتائر مختلفة قد تتخللها صفقة أسرى محدودة أو هدنة، كما تتحدث عنها واشنطن، وبصرف النظر عن موعد العنف على رفح، فإنه لن يوفر لإسرائيل حسمًا للمعركة، ومن المتوقع استمرار صمود المقاومة، مما يفشل أهداف الاحتلال، مما سيؤدّي إلى زيادة الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، وتصاعد الخلاف مع واشنطن، وزيادة التفاعلات السلبية ضد الكيان عالميًا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة